متفرقات

حسابات القوّة والميدان على جبهة المقاومة

لطالما اعتمد حزب الله مبدأ الغموض السلبي لجهة الإعلان عن ترسانته العسكرية خلال الفترات التي شهدت مواجهات مباشرة مع الاحتلال الصهيوني، خصوصًا في حربي العامين 1993 و1996 اللتين مهّدتا لتحرير العام 2000، فتنشغل الدوائر الاستخبارية العسكرية والأمنية للعدو برصد وتحديد نوع وعدد ومستوى السلاح المستخدم من خلال المجريات الميدانية. إلا أن الحزب وابتداءً من حرب تموز 2006 بدأ يكشف تدريجيًا عن هذه الترسانة، سواء من خلال الكلمات التي كان يلقيها الأمين العام سماحة السيد حسن نصر الله أم من خلال الأفلام الخاصة التي ينشرها الاعلام الحربي في المقاومة الإسلامية، وما تزال “الفلاشات” المصوّرة المعاصرة لتلك الفترات تذكّر بهذا الكشف تأريخًا لمرحلة سطّرت فيها المقاومة صفحات ناصعة من زمن الانتصار.

رعب ترسانة حزب الله 
غالبًا ما تعمد مراكز التفكير “الإسرائيلية” والغربية عمومًا إلى إصدار دراسات وبحوث تتحدث عن التطوّر النوعي والكمّي لترسانة حزب الله، حتّى أجمعت كلّها على أن الحزب بما يملكه من فرق بشرية وتجهيزات عسكرية يعدّ أكبر جيش غير نظامي، ويتجاوز ما لديه ما تملكه بعض الجيوش. أما مستوى الجهوزية والتدريب العالي والتشكيلات العسكرية والأساليب الحربية – وفق هذه الدراسات – فهو يضاهي أكثر الجيوش تطوّرًا في العالم، وهذا ما أكّدته الكثير من الروايات والشهادات التي بثها إعلام العدوّ في استعراضها لمكامن الهزيمة في سياق سني المواجهة التي حققت فيها المقاومة الإسلامية انتصارها الناجز منذ العام 1982 حتّى اليوم.

واليوم وفي ظل استمرار جبهة المقاومة مشتعلة في محاورها المختلفة إسنادًا لطوفان الأقصى كثر الحديث عما تملكه المقاومة الإسلامية من وحدات مقاتلة محترفة ومختلف أنواع الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة ومدياتها ومجالاتها وتأثيراتها والمسيّرات وسلاح الدفاع الجوي والسلاح البحري والمدرّعات وغيرها من مستلزمات الحرب، وقياس هذه الترسانة على النتائج التي يمكن أن تسفر عنها في حال إقدام العدوّ على تصعيد عدوانه على لبنان. وتكاد التقديرات “الإسرائيلية” والغربية كلّها تذهب إلى أن أي مواجهة من هذا النوع، سواءٌ كانت على شكل حرب شاملة أم غير شاملة، ستؤدي إلى عواقب وخيمة تقضي على ما تبقى من عناصر القوّة لدى جيش الاحتلال، وتسهم في تقويض ما تبقى من عناصر التماسك والقدرة على خوض المعارك في الميدان.

التهديدات الجوفاء
من المسلّم به أن المواقف السياسية والتصريحات النارية وتصاعد التهديدات تشكّل إحدى الركائز الأساسية للحرب في سياق الحرب النفسية التي تسهم في إضعاف معنويات الخصم، وتؤثر على بناء المواقف وصوغ التقديرات لديه فضلًا عن تقوية أو توهين الدافعية لدى الجنود والمقاتلين. ولكن كلّ ذلك قد يعود بأثر سلبي معاكس في حال لم يقترن بالوقائع التي تقرن القول بالفعل. وإذا ما حاولنا إسقاط هذه المعادلة على الواقع نجد – وباعتراف مسؤولي العدوّ أنفسهم – أن الكفّة ترجح في ميزان جبهة المقاومة، على الرغم من التسليم بعدم وجود تكافؤ في القوى البشرية واللوجستية والعسكرية بين ما لدى جبهة المقاومة وجبهة أميركا و”إسرائيل”.

لا نبحث في هذا المقال بأرقام وأنواع العديد البشري والعدّة الحربية، لأن هذا الأمر يحتاج إلى اختصاصيين في المجالات العسكرية، ولكن نسعى إلى الاقتراب من الصورة التي ترسمها النتائج الميدانية، فعلى الرغم من دخول المواجهة شهرها العاشر ما تزال حكومة العدوّ ورئيسها بنيامين نتنياهو عاجزَين عن تحقيق أي من أهدافها المعلنة، وأوّلها القضاء على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة، ولم تفلح الإمدادات العسكرية الأميركية الأكثر فتكًا إلا في تحويل قطاع غزّة إلى منطقة منكوبة خالية من سكانها وسط حصار تجويعي جوي وبري وبحري، وشريط يومي من المجازر التي تستهدف المدنيين العزّل، وفي المقابل تستمر المقاومة في ضرب تجمّعات جنود العدوّ باعتماد أسلوب حرب العصابات، دون أن يتوقف دكّ المستعمرات في ما يسمّى “غلاف غزّة” بالصواريخ وقذائف الهاون، وهذا يعكس قدرة حركة حماس وفصائل المقاومة على التأقلم مع أي ظرف ميداني مستجد والاستمرار في الدفاع والهجوم.

سقوط الأسطورة
في المقابل، بدأت تتكشّف الفجوات الكبيرة التي خلّفتها المقاومة في البنية العسكرية للاحتلال نقصًا في العديد والآليات والدبابات التي كانت إلى أمد قريب “عربة الرب” التي لا تقهر، ولكنها سقطت بعبوات وبقذائف محلية الصنع وسقطت معها أنظمة الحماية المتطورة من قبيل “تروفي” وغيره، فضلًا عن العدد الهائل من القتلى والجرحى والمعوّقين في جيش الاحتلال، والذي تتكتم المصادر “الإسرائيلية” عن الاعتراف به، وهذا ما دفع بالعدو للاتّجاه إلى تجنيد “الحريديم” لسدّ النقص في عديد الفرق المقاتلة، ليجد نفسه في مشكلة جديدة من شأنها تكريس حال الانقسام في نسيج المجتمع الصهيوني، دون أن نغفل القدرة الأسطورية للمقاومة بإبقاء الأسرى في قبضتها لتزيد من أزمة هذا المجتمع عمقًا وتأثيرًا، ولذلك بدأت مراكز التخطيط العسكري تعيد النظر في جدوى مبدأ الجيش الصغير النوعي المجهّز تكنولوجيًا مع تفوّق سلاح الجو.

الحسم في الميدان البري
أما على الجبهة اللبنانية فالمشكلة تبدو أعمق مع توسّع دائرة الاستهداف تنفيذًا لتهديد السيد نصر الله بإضافة مستوطنات جديدة ضمن دائرة الاستهداف في حال استمرار العدوّ بالتعرّض للمدنيين اللبنانيين. وهذا يفرض ثمنًا باهظًا إضافيًا، ويكرّس سياسة تفريغ المستوطنات الشمالية المهجورة باتّجاه تشكيل شريط عسكري محروق داخل الأرض المحتلة. ولا بد من الإشارة هنا إلى الكلام اللافت الذي ورد على لسان السيد نصر الله مؤخرًا والذي وعد فيه بإعادة إعمار القرى التي تهدّمت في الجنوب بفعل العدوان الصهيوني، ووضعته مصادر متابعة في خانة الرد على اشتراط “إسرائيل” ابتعاد المقاومة عن الحدود لمسافة بين 8 و10 كيلومتر، وكأن سماحته يقول لمن يهمه الأمر إن منهج التدمير الشامل لن يفلح في تحويل قرانا إلى شريط خالٍ من أهله، ومسعى العدوّ في فرض التماثل التهجيري على طرفي الحدود ساقط لا محالة.

لقد نجحت جبهة المقاومة بمحاورها الموحدة أن تنقل المعركة إلى قلب ساحة العدو، وتحوّل كامل التراب الفلسطيني إلى خارطة استهداف للوجود الاحتلالي، ولا سيّما من خلال استخدام سلاح الصواريخ والمسيّرات، وإذا ما أراد نتنياهو المضي قدمًا في مقامرته بمصير “إسرائيل” بعدوان برّي، فجنود الله بالانتظار في الميدان.

المصدر : العهد الاخباري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى